هذا ما نحتاجه!
مصطفى إبراهيم
مقال رأي
في عالم الثابت الوحيد فيه أن كل شيء متغير، يعتبر التمسك بأفكار قديمة أكل الزمن عليها وشرب، جريمة علمية وثقافية وفكرية. فهي تشكل حجر عثرة في وجه كل تطور مأمول، فليس من المعقول أن يردد البعض (منهم المعلم، ومنهم المدرس، ومنهم الأستاذ الجامعي، وحتى بعض من يصنفون على أنهم مفكرين) أفكارا ومقولات تعود بتاريخها إلى الحقبة السوفييتية، حيث كان الصراع بين الشرق والغرب في ذروته، والكل يحاول تشويه صورة الآخر بأي طريقة كانت، كأن يردد البعض مقولة أن الولايات المتحدة تطبع النقود دونما قيد أو شرط، وهي بالتالي تشتري ثروات العالم بهذه الأوراق المطبوعة المسماة “دولار”؛ يردد هذه المقولة دون أن يسأل نفسه: لماذا لا تطبع الولايات المتحدة كمية كافية لتسديد ديونها وهي ذات الرقم الأعلى عالميا.
بعض تلك الأفكار يعود بتاريخه إلى أبعد من ذلك، وما زال حتى اليوم ينظر إليها على أنها حقائق مطلقة، فأحد الأساتذة الجامعيين، على سبيل المثال، اعتاد في كل لقاء أول يجمعه بالطلبة أن يتحدث عن “بروتوكولات حكماء صهيون”، ويوجه الطلبة لقراءة هذا الكتاب، علما أن نسب هذا الكتاب إلى هؤلاء الحكماء المفترضين أصبح موضع شك من قبل أغلب الباحثين.
وفي مناسبة لا تخلو من الطرافة، يستغرب معظم الطلبة، والأساتذة الجامعيين في إحدى الجامعات – الذين اطلعوا على الموضوع – من مجرد اختيار أحد الطلبة: “تراجع أهمية الشرق الأوسط” كعنوان لدراسة ينوي إنجازها. فالشرق الأوسط باعتقاد هؤلاء؛ كان وما زال وسيبقى أهم منطقة في العالم. بالرغم من كثرة الأدلة والمعطيات التي تثبت أن المنطقة فقدت الكثير من أهميتها، وبالرغم من أن إدارة الرئيس أوباما، وعلى لسان أكثر من مسؤول فيها، كانت تصرح بنية الولايات المتحدة الانسحاب من هذه المنطقة باتجاه مناطق أكثر أهمية.
الأمثلة آنفة الذكر، والتي تشير بوضوح إلى نوع من الترهل الفكري والجمود المعرفي، ليست أكثر من أمثلة بسيطة تم اختيارها بعناية، فالتعمق أكثر قد يصيب القارئ بالغضب والنفور، ويجعله يتهم الكاتب بالتخريف، أو شيء آخر.
الفقرة التالية تشي بما ترغب هذه المقالة بالوصول إليه. والتي وردت في كتاب مقرر لطلاب كلية العلوم السياسية اسمه: ” الاستراتيجية والأمن القومي ” تحت عنوان ” معوقات التفكير الاستراتيجي ” لكنها تصلح للتعميم. أي، تصلح أن تدرج كمعوق لأي نوع من التفكير. وهي:
* خبرات المفكر الاستراتيجي : مع ازدياد خبرة المفكر الاستراتيجي بشيء معين أو تخصص معين ، تتجمع في ذهنه تدريجيا شبكة من الحقائق و الفروض و النماذج المتعلقة بهذا الشيء ، و مع مرور الوقت و مع ازدياد تراكم المعلومات و المعارف و الخبرات الخاصة بهذا الأمر ، فإن الشبكة المعلوماتية المتجمعة في ذهنه بخصوص الشيء موضوع الخبرة تقوى و تصبح أكثر صلابة ، بحيث تزداد صعوبة استيعاب المفكر الاستراتيجي لأفكار بديلة أو مختلفة جذريا ، كما تقل قدرته على اكتشاف مشاكل جديدة في المجال موضوع خبرته ، ويصبح الشيء هو الذي يحتوي الخبير المفكر وليس العكس ، وهنا يتحول الخبير إلى ناقد للأفكار الجديدة لأنها تتناقض مع ما يعرفه من حقائق ، و أكثر من ذلك فقد يتحول الخبير إلى ممارسة التدخل السلبي تجاه عمليات الإبداع ، و يصبح هو نفسه عقبة من حيث لا يشعر ، فالمفكر الاستراتيجي يحتاج إلى تحديث معلوماته و خبراته باستمرار لأنه يعيش في عالم يتغير كل يوم ، و أن يتقبل النقد العلمي لأفكاره و يراجع و يفحص أفكاره بين فترة وأخرى لقياس مدى مواكبتها للتطور و التغيير ، و حتى يبقى في بيئة الإبداع الاستراتيجي ، و عليه أيضا الابتعاد عن الخرافات و الأساطير و التعصب الفكري ..
بجهود حثيثة يبحث السوريون عن مخرج من أزمتهم الراهنة، وعن أفكار خلاقة ترسم لهم مستقبلا مشرقا ينسيهم مرارة الماضي، ويكون ثمنا وتتويجا لتضحياتهم وعذاباتهم التي فاقت كل حد. وبكل صراحة؛ هذا ليس مضمونا، فكثيرة هي الثورات التي عادت بالبلاد إلى الخلف، وكمثال على ذلك، كل الثورات التي جاءت بأنظمة حكم شيوعية. ويعتقد أن الشعب السوري بثقافته الحالية التي حشيت في دماغه حشوا، ونمط تفكيره، وبعض القيم التي اكتسبها خلال سنوات حكم الاستبداد؛ لن يستطيع أن ينتج سوى نظاما شبيها بالنظام الحالي إن لم يكن نسخة طبق الأصل عنه، لذلك فإن أهم ما نحتاجه: ثورة فكرية شاملة، مبنية على أسس علمية؛ تزيح ثقافة الخرافة وتحل محلها. فلنعلم الأجيال حقوق الإنسان ومعنى الكرامة، ولنعلمهم حرية التعبير وحرية المعتقد، ولنعلمهم تقبل الآخر، وأن العنصرية والاستعلاء على الآخر داء يمزق المجتمعات. والأهم أن نعلمهم أن الحب يدفن الأحقاد.
إن الثورة الفكرية وتحرير العقل من التحريف والأفكار المرهقة الموروثة من عهد الاستبداد، هي الضمانة الوحيدة لأن تكون سوريا المستقبل أفضل، فالعودة إلى الوطن بقيم مغايرة تعلي من شأن الكرامة الإنسانية، وتزدري الاستخفاف بالعقول والكذب كممارسة سلطوية، وتزدري التملق والمزاودة والانبطاح كسلوك اجتماعي، كفيلة بأن تجعل أي سلطة تخجل من هذا النوع من الممارسات، إذ يستحيل على أي سلطة أن تمارس سلوكا خارج السياق العام لثقافة المجتمع..
هذا كل ما نحتاجه، فلندع الجديد يتموضع في المقدمة، وليأخذ حراس الخرافة غفوة، فقد أرهقونا وأرهقوا أنفسهم من حيث لا يشعرون!
*المقال يعبر عن رأي صاحبه
1 Comment
ممتاز…