مكونات القوة الناعمة في الثورة السورية
عيسى حسين المحمد
بدأت الثورة السورية ثورةً ناعمة، بعد أن عمّ الاستياء صفوف السوريين، فتحركوا بأرضية عاطفية، وعاطفة دينية، فرد نظام الأسد بقوة عسكرية، ومن ورائه قوة ذات أبعاد عدة، عملت على كبح جماح الشعب، واقناعه بأن ما يحدث ما هو الا مؤامرة خارجية.
تلك القوة تسمى القوة الناعمة؛ التي تعتبر شكلاً من أشكال القوة، وبعداً رئيسياً من أبعاد اللعبة الدولية التي تشترك فيها كل الدول تقريبا. فهي “قوة القرن الواحد والعشرين”، ويمكن القول بأن نظام الأسد استخدم القوة الناعمة ببراعة، والدليل على ذلك وجود مؤيدين له.
لست بصدد أن أتحدث عن القوة الناعمة عند نظام الأسد، بل أُريد الحديث عن مكوناتها (سأكتفي بثلاثة) في الثورة السورية، من خلال إثبات الفرضية التالية: إن مكونات القوة الناعمة للثورة السورية موجودة، ولكنها غير منظمة وتحتاج الى توجيه.
يقول جوزيف ناي الذي يعد من أشهر فلاسفة ودعاة القوة الناعمة: … قد تحصل أي دولة على النتائج التي تريدها في السياسة العالمية بفضل إعجاب الدول الأخرى بها، وتحاول تقليدها، وتتطلع الى مستوى الرخاء والانفتاح بها، تلك هي القوة الناعمة، فهي تحمل الآخرين على الرغبة في الحصول على النتائج التي تريدها من دون إكراههم على ذلك.
فالقوة الناعمة يمكن أن تحل محل القوة التقليدية الصلبة في تحقيق الأهداف دون إكراه الطرف الآخر. فهي بشكل عام انجذاب الناس لفكرة معينة من خلال قوة الاقناع والتأثير.
المنابر الهشّة
وظّف النبي صل الله عليه وسلم المنبر لخدمة عدة أمور تتعلق بالشأن العام للدولة، فمثلاً، استُخدم المنبر” لإعلان الشرائع”، و”إعلان القرارات الرسمية في الدولة”، وعرض القضايا المهمة للنقاش والبحث، والتعليم، ووسيلة اعلام لإخبار الرعية بأمور السلم والحرب. تقريباً، كان دورها واحد في مختلف العصور الإسلامية.
يمكن تشبيهها بأنها ناطق رسمي للسلطان والعالِم والمربي، فكانت وكأنها مستثمر في الموارد البشرية، الذين يأتون اليها دون أن تطلب منهم، والمستفيد منها يحصل على إفادة مزدوجة، دنيوية واخروية، الأولى تتحقق في حال حصل السامع على ما ينفعه في اصلاح نفسه وإصلاح سلوكه أو فكره. والثانية تتحقق بما يحصل عليه من أجر.
ذكر الشيخ علي الطنطاوي، أن وفداً من العلماء زار واحداً من كبار أولي الأمر، يشكو اليه فساد الأخلاق، فقال لهم: “أنا أعجب من أمركم؛ عندكم هذه المنابر التي تستطيعون أن تصلحوا كل فاسد، وتقوّموا كل معّوج، ثم تشكون إليّ ما تجدون!”.
المنابر اليوم، تكاد تكون غير مرئية (من حيث التأثير) مع التطور الهائل في مجال الاتصالات ووسائل الاعلام، إلا أننا اليوم في ظل الثورة السورية أحوج ما نكون اليها؛ لقربها من الناس أكثر من وسائل التواصل الاجتماعي. إذا ما أُحسن استخدامها. أظن أن أهم وظيفة للمنابر اليوم هي نشر قيم الثورة ومبادئها، وأن تكون درعاً في مواجهة كل ما يخالف وجدان الشعب السوري، وأن يكون لها دوراً في رص الصفوف حول لواء الثورة، وان تكون قاعدة للإصلاح. باعتبار أن كل الإصلاحيين تقريبا في العالم الإسلامي ربتهم المساجد.
إلا أن الأمر ليس بهذه السهولة، فالمنابر تابعة لأوقاف الدولة التركية وتتحرك بما يخدم قوتها الناعمة، هذا ما نلاحظه في كثير من خطب الجمعة. كقضية آيا صوفيا مثلاً. أقصد من كلامي هذا، المنبر لنا وليس لأحد غيرنا، والأولى أن يخدم قضايانا، ويقدم حلولاً لمشكلاتنا.
كثيرٌ من الخطباء ما زال يستخدم أسلوب ما قبل الثورة في اختيار الموضوع وطريقة الإلقاء، فالموضوع عبارة عن قصة، أو سرد لموضوع معين، وهكذا. لقد تم إقصاء بعض الخطباء بسبب خروجهم عن هذه القاعدة، واختيارهم للنهج الإصلاحي الواقعي بعيدا عن الأسلوب الدعوي المثالي، الذي يعتبر من مخلفات البعث.
ممكن أن نضرب مثالاً على ذلك، في إحدى خطب الجمعة التي كنت حاضراً فيها، واذ بالخطيب يبدأ بالدعاء على الأقليات الدينية في سوريا! كالنصارى وغيرهم، كيف هذا؟! خطاباً هجومياً بعد عقد من الثورة؟! ونحن في هذه المرحلة الوجودية؟! أليس من الأولى أن يتحدث عن الأخلاق، عن السلوك، عن وضع الثورة الحالي؟!.
إن الكلام يطول، المهم أن المنبر كمكون من مكونات القوة الناعمة في الثورة السورية تأثيره سلبيّ، من حيث اختيار الموضوع، والأسلوب. والله المستعان.
المدرسة كقناة ثانية
تعتبر المدرسة القناة الثانية (بعد الأسرة) من قنوات التنشئة السياسية والاجتماعية، وفيها يكون الانسان جاهزاً لتلقي القيم التي تغرس في وجدانه من قبل المعلم، ومن ورائه السلطة الحاكمة. إن أكثر مؤسسة في المناطق المحررة تحتاج لإعادة هيكلة هي المؤسسة التعليمية، لأن فعاليتها محدودة للغاية، فالنهج المتبع في إعطاء المعلومة للطالب لم يتغير كثيراً عما كان عليه قبل الثورة، فالطريقة التقليدية سيدة الموقف، والأمر الآخر هو أُجور المعلمين، فما يتقاضونه لا يكفي إلا لأيام معدودات، وهذا يؤثر كثيرا على أسلوب الإعطاء.
المدرسة في المناطق المحررة مثل الكتّاب سابقاً، فالأمر يقتصر على أمور القراءة والكتابة والحساب، أما الأمور التي يعوّل عليها في البناء ليست موجودة تقريباً، مثل الأخلاق والسلوك والثقافة، التي تعتبر أساساً في التركيبة التعليمية. الكثير من المعلمين يعتبرون المهنة مجرد عمل عادي له مردود مادي، ما يؤدي الى غياب حس المسئولية لدى الكثير، والطالب يبقى تحت تأثير البيئة الأسرية التقليدية؛ لعدم رؤيته فارقاً بين البيئتين.
المناهج الدراسية مازالت كما هي لم يتغير فيها سوى الغلاف، ومضمونها كُتب في أقبية المخابرات الأسدية، والوسائل التعليمية التي تعتبر مهمة جداً جداً تكاد تكون معدومة، والمعلم الذي يحتاج الى تدريب متواصل، ينتظر الفرصة للحصول على عقد عمل مع إحدى منظمات المجتمع المدني التي تعتبر أُجورها سخية جداً. هناك أيضاً ما يسمى المساحة الصديقة للطفل، التي باتت ضرورية جداً لأطفال المحرر، لأن غالبيتهم العظمى يسكن الخيام.
بنية التعليم بشكل عام مأساوية خاصة مدارس المخيمات، ثم إن صنع القرار في المؤسسة التعليمية خرج من أيدينا، وذلكم المصاب. إن المدرسة كمكون للقوة الناعمة لم نستفد منها، والأمر يتوقف على ثورية المعلم، فإن كان ثورياً معارضاً لنظام الأسد فإن ذلك سيكون له أثر إيجابي على طلابه، أما إذا كان من الرماديين فهذه طامة كبرى. يمكن تجاوز هذه العقبة بتخصيص مقرر دراسي يتعلق بالثورة بشكل مباشر، يتناول المراحل التي مرت بها الثورة، وكيف واجهها نظام الأسد، وكيف تعامل معها المجتمع الدولي، وما هو واجبنا تجاهها مع التركيز على مبادئها ومحاولة غرس قيمها في عقول الطلاب.
يمكن القول بأن كل الأطراف الفاعلة في سوريا استخدم المدارس لنشر قوته الناعمة بين السوريين، بدءاً من نظام الأسد الى تنظيم الدولة الإسلامية وقوات سوريا الديمقراطية وإيران. ونحن في المناطق المحررة الأقل كفاءة في استخدامها كقوة ناعمة.
يمكن إجمال كل ما سبق بكلمات للكاتب مصطفى حجازي من كتابه الموسوم بـ “سيكولوجية الانسان المقهور” يقول: … وتتابع المدارس عملية القهر والشلل الذهني التي بدأت به الأسرة، من خلال سلسلة طويلة من الأنظمة والعلاقات التسلطية يفرضها نظام تربوي متخلف، ومعلمون عاجزون عن الوصول الى قلوب الطلاب وعقولهم إلا من خلال القمع. وتتحول الدراسة إلى عملية تدجين، تفرض الخِصاء الفكري على الطفل، كي يكون مجرد أداة واضحة، يتم ذلك تحت شعار غرس القيم الخلقية (قيم الاحترام، والطاعة، والنظام، وحسن السيرة والسلوك) لا يسمح للطالب أن يُعملَ فكره، أن ينتقد، أن يحلل، أن يتخذ موقفاً شخصياً، أن يختار، لا يسمح له ببساطة أن يكون كائناً مستقلاً ذا إرادة حرة.
قوة جبّارة-هشّة
يعتبر الإعلام عنوان بارز للقوة الناعمة التي تهدف للنفوذ والهيمنة والسلطة. فالقوة الصلبة لم تعد وحدها تمثل الاستمرار والهيمنة لوحدها، لأنها لم تعد قوة حاسمة لوحدها. إن للإعلام دور بارز في إيصال الثورة للعالم، ولكن غياب الكفاءة وضعف الإمكانيات لم يزلا رفيقا درب الإعلام الثوري. بالإضافة إلى ما تعرض له بعض الإعلاميين من خطف وقتل، مما زاد من تأزيم الملف الإعلامي.
لقد أُحيلت الساحة الثورية جذاذاً؛ بسبب اختلاف الداعم لكل تيار واختلاف التوجهات السياسية، مما أدى إلى اختلاف النظرة لوظيفة الإعلام ودوره في الثورة السورية. يكفيه شرفاً أن كان همه إيصال معاناة السوريين للعالم، ولكن هناك وظيفة هامة جداً تقع على عاتق الجهاز الإعلامي، ألا وهي التأثير! التأثير هو جوهر القوة الناعمة، فبالتأثير نجعل المحايد صديق، ونحيّد عدواً محتملاً.
يفتقر الإعلام الثوري لسلطة ضابطة حازمة، ويفتقر للوسائل المادية. فوجود سلطة صارمة ضروري ليس فقط للإعلام، إنما لكل أمر حيوي يتعلق بالثورة، كالملف السياسي والعسكري، وموضوع الدعم الخارجي لا يضبطه إلا سلطة من هذا النوع.
يعد الإعلام المكون الأهم للقوة الناعمة، وإذا ما استخدم بكفاءة وفاعلية، فإن تأثيره يفوق تأثير السلاح التقليدي. يرى “ميشيل فوكو” أن القوة الناعمة تضمن إجباراً وإلزاماً غير مباشرين على التغيير، قد تعجز القوة الصلبة على القيام به. والقوة الناعمة ليست دعاية سياسية، ولكنها سجال عقلي يهدف الى التأثير على الرأي العام وتحديثه. في هذا الوقت الذي نعيشه بتقلباته الفكرية أو القيمية يكون الإعلام ذا تأثير خطير في بلورة الفكر، الذي يتحكم في سلوكنا وطريقة تفكيرنا. والله المستعان.
إن المنبر والمدرسة والإعلام، موجودون كهياكل، ولكن ما نفع الهيكل إن كان فارغاً؟ يجب علينا أن نكون قارة مجتمعين، لا نحتاج أكثر من يقتنع السوريين كلهم بهذه الثورة، فاقتناع العالم بها يأتي بعد اقتناعنا نحن كسوريين بها.
لتحميل المقالة بصيغة بي دي اف
مكونات القوة الناعمة في الثورة السورية