الوضع الاقتصادي والمستوى المعيشي في الشمال السوري
الباحث عزالدين الجراد – المركز السوري سيرز
مقدمة:
كثيراً ما يشبه المجتمع بالفرد والفرد بالمجتمع، وإذا أردنا أن نصف إنساناً ما ونحكم عليه انتبهنا لصحته ونظافته ولباسه ومسكنه ودخله وخلقه واتجاهه الفكري وبوجه عام لمستوى معيشته وحياته، كذلك إذا أردنا أن نصف فئة من الناس أو جماعة أو شعباً ونحكم عليهم لزم أن ننتبه لخصائص ذلك الشعب أو الجماعة أو الفئة من الناحية الطبيعية التي تضم قضايا الصحة والسكن والتغذية والجوانب الاجتماعية التي تشمل الثقافة والمزايا الإنسانية التي يتمتع بها أفراد الشعب، وبوجه عام نحاول أن نحدد مستوى المعيشة لديهم.
ولكن تحديد مستوى المعيشة يعتبر من الأمور الصعبة، لأن هذا المستوى يشمل عناصر كثيرة ومتفاوتة تتباين فيها المجتمعات كما تتباين بين الأفراد كالعلوم والفنون والمرافق الثقافية ومقدار الرزق والرفاهية وأحوال العمل والأمن والمسكن والنظافة والصحة……الخ.
ويزيد الامر صعوبة أنه لما كان مستوى المعيشة يستعمل في الغالب للموازنة بين المجتمعات، لزم تقدير تلك الخصائص والعناصر تقديراً دقيقاً وتقديراً كمياً ما أمكن، خصوصاً أنه لا يتيسر تتبع أحوال الناس فرداً فرداً ولذلك لابد من النظر الى هذه الأمور نظرة وسطية إحصائية، واعتبار مستوى المعيشة وقياسه أمرين تقريبيين.
هذا ولا يوجد تعريف اجتمع عليه الباحثين في هذا المجال لمستوى المعيشة، فالمفهوم لدى البعض يعني: شكلاً من أشكال كثيرة للسلوك، بينما يتضمن لدى بعضهم الآخر أنماطا واسعة للعيش.
ويمكن تعريف مستوى المعيشة على أنه كل ما يتمتع به الفرد من ملبس ومأكل ومسكن ويتحدد ذلك بمستوى الدخل والبيئة التي يعيش فيها والطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها ويقاس المستوى المعيشي بعدة مؤشرات اقتصادية واجتماعية وثقافية مثل: الدخل، ونسبة التعلم، والمستوى الصحي، ومعدل الفقر.
الواقع المعيشي في الشمال السوري:
عانى المواطن في الشمال السوري كثيرًا خلال السنوات الماضية خلال فترات الحرب والنزوح، وتَأثَّر مستوى المعيشة سلبيًّا في أثناء الحملة الأخيرة والتي خسرت فيها المعارضة مناطق جغرافية كبيرة بريفي حماه الشمالي وريف ادلب الجنوبي والشرقي.
وبات هم المعيشة وتأمين مستلزمات الحياة اليومية يتصدر قائمة المساعي الرئيسية اليومية لدى الأسر في المجتمع المحليً، فقد شهدت الأوضاع المعيشية في الآونة الأخيرة تردّياً واضحاً تجلت آثارها في عجز الكثير من الأسر عن تأمين احتياجات حياتهم الأساسية.
حيث شهدت الأسواق ارتفاعات جنونية ومتسارعة في الأسعار نتيجة ارتفاع مستويات التضخم وانخفاض قيمة العملة المحلية أمام الدولار الأمريكي؛ وانتهازية الكثير من تجار السلع والمواد وخاصة الغذائية في استغلال حالة عدم الاستقرار في السوق وفي سعر الصرف وعدم فعالية الرقابة التموينية مما دفع بالأسعار لمستويات قياسية بلغت ما بين 50 إلى 100 ضعفاً مقارنة بأسعار ما قبل عام 2011 وما بين 3 إلى خمسة أضعاف مقارنة ببداية العام الحالي.
هذا وقد قامت جامعة جون هوبكنز بدراسة للتضخم في سورية حيث توصل “ستيف هـ. هانكي” (اقتصادي أمريكي وخبير اقتصادي في جامعة جونز هوبكنز) الى أن معدل التضخم في سورية بلغ 310.30% على أساس سنوي وذلك في 19 آذار / مارس 2021، مما يجعله ثالث أعلى تضخم في العالم، حيث غرّد على حسابه على تويتر “ مع انهيار الليرة السورية بلغ التضخم في سورية 310.30% مما يجعله من أعلى معدلات التضخم في العالم“.
وأشار إلى أن معدلات التضخم تلك مستمدة من تغيرات سعر صرف الليرة مقابل الدولار في السوق السوداء، وطبعاً فإن الدراسة للمناطق الواقعة تحت سيطرة النظام السوري، لكن الامر لا يختلف كثيراً فيما يخص معدلات التضخم عن المناطق في الشمال السوري.
يذكر أن آخر معدل تضخم نشره المكتب المركزي للإحصاء سورية عن شهر آب/ أغسطس عام 2020، حيث بلغ فيه معدل التضخم 3.5% على أساس شهري و139.5% على أساس سنوي
وقد وصل الرقم القياسي لأسعار المستهلك إلى مستويات قياسية 2107.8% حتى شهر آب/أغسطس من العام 2020، وذلك مقارنة بعام الأساس 2010. (مع ملاحظة ضعف الاحصائيات ونقص في الأرقام الإحصائية مع عدم الدقة).
يرتبط مستوى معيشة الفرد في أي دولة بمنظومة متكاملة من العوامل التي تتداخل لتشكِّل في النهاية مستوى معيشيّاً يتراوح بين قطبَي الرفاهية والشقاء، إذ تتأثر مستويات المعيشة بمتغيرات اقتصادية مختلفة، مثل معدَّلات التضخُّم ومعدَّلات البطالة والتشغيل ونموّ القطاعات الرئيسية للاقتصاد والسياسات الاقتصادية التي تنتهجها الدولة في خُطَط الموازنة العامَّة بالتوسُّع في معدَّلات الإنفاق الحكومي لمواجهة الأزمات وزيادة معدَّلات النمو، أو بالتقشُّف الذي يعكس تراجع موارد الدولة ومحاولة تقليل النفقات أو مواجهة أوضاع اقتصادية معيَّنة.
تهدف هذه الدراسة إلى رسم صورة واضحة عن مستويات المعيشة في الشمال السوري المحرر وَفْقًا للمتغيرات الاقتصادية المختلفة للاقتصاد في هذه المنطقة، وخُطَط الحكومة المالية في هذه المنطقة وسياستها الاقتصادية وانعكاساتها على الظروف المعيشية وتأثيرها على جودة الحياة داخل المجتمع في الحاضر والمستقبل.
الأوضاع الاقتصادية وتداعياتها على مستوى المعيشة:
مجموعة من الاحداث الهامة التي وقعت خلال الفترة الماضية والتي كان لها تبعياتها وتأثيراتها على مستوى المعيشة للمواطن بشكل مباشر أو غير مباشر من هذه الاحداث:
الحدث الأول: الحرب التي شنتها قوات النظام السوري مدعومة بالمليشيات المساندة لها والتابعة لإيران وروسيا وما نتج عنها من موجة نزوح كبيرة من ريف حماة الشمالي وريف ادلب الجنوبي والشرقي باتجاه المناطق الحدودية وما نتج عن ذلك من خسائر كبيرة للنازحين سواءً بالممتلكات الشخصية وخسارة مساحة من الأراضي الزراعية الكبيرة والتي كانت تشكل السلة الغذائية للشمال السوري، بالإضافة الي الاكتظاظ السكاني الكبير في المناطق التي تم النزوح اليها وما ترتب على ذلك من ضغط هائل على الخدمات المقدمة في تلك المناطق بكافة أشكالها (التهجير القسري وانعكاساته على المواطن في الشمال السوري، حيث إنها ولّدت كثافات سكانية غير متوازنة في المدن التي باتت آمنة نسبياً، وهذا الأمر أدى إلى ظهور مظاهر أخرى، من أهمها ارتفاع إيجارات السكن وعدم كفاية البيوت الصالحة للسكن، وقد بلغ متوسط سعر إيجار المنزل في ادلب وريفها الشمالي ما بين 50 دولار أمريكي إلى 250 دولار امريكي، وهي أرقام مرعبة تفوق قدرة الأسرة في الشمال السوري على التحمّل.
كل ذلك شكل عبئاً على المواطن وانعكس سلباً على مستوى معيشته وزاد من معاناته وفقره.
أما الحدث الثاني: المؤثِّر قطعًا على مستويات معيشة المواطن في الشمال السوري فهو تدهور سعر صرف الليرة السورية كثيرًا بنهاية عام 2020 (التدهور الأخير في سعر صرف الليرة السورية هو جزء من سلسلة تراجعات بدأت مع بداية الثورة السورية عام 2011، وبدأت بالتسارع مع نهاية عام 2019 وبداية عام 2020 وهناك أسباب موضوعية اقتصادية تبرر هذا التدهور في سعر الصرف، ومنها تراجع الناتج الإجمالي المحلي بنسبة 66% أي تعطّل عجلة الاقتصاد بشكل عام تقريبًا، وتراجع الاحتياطي النقدي، حيث كان الاحتياطي النقدي قبل 2011، بحسب مصادر النظام، 21 مليار دولار، أما اليوم فتراجع إلى دون المليار دولار، إضافة إلى تراجع نصيب الفرد السنوي من 3000 دولار سنويًا قبل 2011 إلى 500 دولار سنويًا، وذلك بحسب تقديرات النصف الأول من 2020، وتراجع الصادرات والواردات بشكل حاد، إضافة إلى تآكل القطاع الزراعي”. بالإضافة الى طريقة التعامل مع هذا التدهور، (حسب الباحث الاقتصادي السوري عبد الناصر الجاسم مدرس إدارة الاعمال في جامعة ماردين التركية) بالإضافة الى سلسلة العقوبات المفروضة على النظام السوري وأخرها كان تطبيق قانون قيصر والذي بدأ يلقي بظلاله بشكل كبير على الاقتصاد السوري وتدهور سعر صرف الليرة السورية بشكل كبير جداً.
وسوف يتبع تدهور سعر صرف العملة المحلِّية ارتفاع معدَّل تضخُّم الأسعار باستمرار لارتفاع تكلفة السلع المستورَدة، وكذلك ارتفاع تكلفة الموادّ الخام الداخلة في التصنيع المحلّي، وسينعكس الأمر بزيادة أسعار المنتجات تامَّة الصنع في النهاية.
وبالتالي الأثر الأكثر عمقًا سيكون على الطبقات الفقيرة إذا مسّ ارتفاع الأسعار السلع الأساسية بالنسبة إليهم كالغذاء والدواء، ومثل هذه السلع لا يستغني عنها أي مواطن، لكن مع ارتفاع أسعارها وعدم توافر بديل محلّي ستتراجع معدَّلات الرعاية الصحية وتتزايد معدَّلات الأمراض والوَفَيات في مثل هذه الظروف المعيشية الصعبة ويمكن وصف المشهد الاقتصادي في سورية بشكل عام بـ “القاتم”، بسبب الفقر وتدهور مستويات المعيشية والتفاوت الكبير بمعدلات الدخل، إضافة إلى تآكل المقدرات وانعدام مدخرات الأفراد.
وقال الجاسم إن “مؤشرات المشهد الاقتصادي تتراجع منذ العام 2011 حتى العام 2021، وفي السنة الأخيرة، بدت حدة التراجع واضحة جدًا، وكل هذا الانكماش الاقتصادي الحاد سيضرب معيشة المواطن وقدرته على الوصول إلى سبل العيش”. وأشار إلى أن حوالي 90% من السوريين ينعدم عندهم الأمن الغذائي، وأن العائلة المكونة من خمسة أشخاص في الشمال السوري تحتاج إلى 10 دولار أمريكي ليأكل ويشرب فقط، عدا نفقات الطبابة والنقل والتعليم، وهذا يدل على المشهد المأسوي فيما يخص سلة الغذاء السوري.
وبالإضافة إلى الأحداث الأخيرة، تؤثّر مجموعة من الأسباب والمتغيرات الاقتصادية على مستوى معيشة المواطن في الشمال السوري:
الأسباب الاقتصادية المؤثرة على مستوى المعيشة:
1- ارتفاع مستويات التضخم لأرقام خيالية وعدم القدرة على كبح جماحه. الأمر الذي يتجسد بارتفاعات كبيرة في الأسعار، مما يقلل من القدرة الشرائية للمواطنين ويتسبب في ضعف إمكاناتهم على تأمين مستلزمات حياتهم الأساسية.
2- غياب الخطط الاستراتيجية والإدارة السليمة عن آليات استغلال الموارد الاقتصادية المتاحة. فالمهم ليس توفر الموارد ولا إقامة الاستثمارات بل الأهم هي العقول التي تستثمر تلك الموارد بالشكل الأمثل وتدير تلك الاستثمارات بكفاءة وفعالية عالية.
3- التخبط في استخدام السياسات الاقتصادية وتطبيقاتها على أرض الواقع؛ وغياب التنظيم فيما بينها وخاصة تلك المتعلقة بالسياسات المالية من حيث الإنفاق العام والقنوات التي يتم صرف الأموال العامة فيها.
4- تراجع في نوعية وجودة الخدمات العامة وخاصة الرئيسية منها؛ كالكهرباء والماء والإنترنت والطرق والشوارع العامة. الأمر الذي يتسبب في تزايد الأعباء المالية للمواطنين ويثقل كاهلهم بها.
5- سيطرة القطاعات غير الإنتاجية وذات الربح السريع؛ كالتجارة والاستيراد والتصدير وعمل الصيرفة على الاقتصاد المحلي. الأمر الذي يقوض تحقيق أية قيم مضافة قد تكون أساساً لاستمرار العمل والتوسع في الإنتاج وخلق فرص عمل جديدة مستقبلاً من خلال إقامة الاستثمارات والمشاريع الإنتاجية.
6- تلاعب التجار بحركة الأسواق والتجارة وتنامي ظاهرة الاحتكار مقابل تراجع الرقابة التموينية وضعف خبرات أجهزتها والرضوخ في أحيان كثيرة لطلبات التجار وضعف قوانين محاسبتهم.
7- تقدير وربط مستويات أسعار السلع والخدمات بسعر صرف الدولار الأمريكي فقط؛ وهي آلية نهب لمدخرات وقدرات الأفراد المواطنين بشكل مباشر. ذلك أن سعر الصرف هو أحد المكونات الاقتصادية للسعر وليس كلها. وبالتالي ينعكس أي ارتفاع في سعر الدولار ارتفاعاً في أسعار السلع والخدمات مما يشكل أعباءً كبيرة على كاهل المواطنين.
8- الاعتماد الكبير على استيراد مستلزمات الأسواق والمنطقة من السلع والمواد وخاصة المواد الغذائية والأدوية، مما يرفع من أسعارها بسبب الرسوم التي تفرض عليها وارتفاع نفقات شحنها ونقلها كل ذلك يرفع من تكاليفها وبالتالي تنعكس ارتفاعاً في أسعارها.
9- عدم الخبرة في تنفيذ المشاريع في المنطقة؛ وفقدان القائمين عليها للمقومات الإدارية العلمية أو الخبرات الكافية لتنفيذها بالشكل الأمثل، إلى جانب حالات الفساد المرافقة للتنفيذ أو لعقد صفقات الإمداد والتوريد بالنسبة للسلع والمواد واستفحالها في الفترة الماضية مما يرفع من تكاليف الاقتصاد وبالتالي ارتفاعاً في أسعار السلع والمواد.
توصيات:
مما لا شك فيه أنه لا يمكن الفصل بين الجانب الاقتصادي والسياسي، فالمستوى المعيشي والضائقة المعيشية التي يعانيها السوريون الآن أصبحت شأناً سياسياً بامتياز، فالنظام يتاجر بهذه الأزمات في جبهاته السياسية، ومن ناحية أخرى هناك الصراع الدولي والإقليمي وتقاسم الحصص والأدوار في سورية، حيث باتت القضايا الاقتصادية وعمق الأزمة المعيشية تطفو على سطح أي تفاوض وأي حديث سياسي.
سأطرح بعضاً من الحلول التي أرى بأنها قد تمنع من تزايد نسبة الفقراء؛ وتحسين الوضع المعيشي للأسر في المنطقة في ظل الارتفاعات الشاهقة للأسعار وانخفاض القدرات الشرائية وتدنّي الحالة المعيشية:
11- زيادة دور الرقابة التموينية على الأسواق؛ وضبط عمل التجار؛ ومراقبة الأسواق؛ واتخاذ إجراءات قانونية صارمة بحق المحتكرين؛ والمتلاعبين بقوت الشعب.
لتحميل البحث بصيغة بي دي اف PDF