الثورة السورية ومآلاتها في السنة العاشرة
د. جهاد الأتاسي عضو المركز
الواقع السياسي الحالي للمعارضة السورية بعد عشر سنوات
مع دخول الثورة السورية عامها العاشر يستمر المشهد في التعقيد والغموض والمأساوية لأحوال السوريين داخل وخارج الوطن؛ فمازالت المشكلات أمام الثورة من الأطراف السياسية أو العسكرية غير منظمة ومشتتة وتتفاقم أكثر فأكثر منذ التحول من المسار السلمي الى المسار العسكري والسياسي كخيار رئيسي ثم الى المسار السياسي فقط وبقي غير منسجماً مع أهداف وطلبات الشارع الثوري السوري، مما أدى الى تعاظم حجم التدخل الخارجي وتغييب القرار الوطني السوري بعد هيمنة سياسية من بعض الدول التي تتقاطع مصالحها في الواقع السوري الجيوسياسي من تحكم تمويلي للسلاح الى تمركز واحتلال عسكري روسي ودخول المليشيات الطائفية الخارجية بفرض وقائع عسكرية على الأرض لتثبيت مواقف سياسية متضادة،
هذا المشهد يتفاقم ويزيد من حجم الأعباء الملقاة على كل الناشطين المخلصين من عسكريين وسياسيين في الثورة، وتزداد تلك الأعباء بزيادة حجم المشكلات عمقا” عبر أزمات مفتعلة لتدويل الثورة وإخمادها، وكانت مخارجها أكثر سلبية وتشتياً بين الأستانة وجنيف لولبيتان متبادلتين بالأدوار. بتعاظم هذه المشكلات ضمن هوامش إضافية في الاختلاف والأداء ويتشتت العمل المركزي المفترض أن تكون بوصلته إسقاط النظام المجرم ولا يحيد عنه في مفاوضات جانبية سفسطائية دون نتائج ملموسة، رغم أن تلك الماراثونات بين فرقاء المعارضة باتت جلية للشارع السوري أنها تعمل بتوجيهات خارجية بالغة الخبث، وأيضاً يشهد المسار السياسي السوري عموماَ انخفاضا مستمراً يوما بعد يوم في أجسام سياسية مثل الائتلاف الوطني لقوى الثورة وهيئة المفاوضات المجمدة منذ فترة قريبة، ونرى عمق الخبث السياسي الموجه من عدد من الجهات الدولية في تحجيم القرارات الدولية المتفق عليها في جنيف 1 (الذي بقي الخيار السياسي الأفضل والموضوعي)، ويتجلى في تقسيمها مرة أخرى وبعثرة مضمونها في سلاسل مقسمة من مرحلة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات الى لجان دستورية وانتخابية وغيرها، مما دعى الى فقدان دعم الشارع لهذه الأجسام بعد أن تحطمت طموحات الشعب السوري في إقامة دولته المدنية الديمقراطية الحديثة.
توصيف المشكلات الأساسية
إن من أهم المشكلات الأساسية لتشتت المعارضة السورية تكمن في عدة أمكان منها عدم وجود قيادة عسكرية و سياسية واحدة للثورة، فقد فشلت كل المشاريع والمحاولات في إيجاد قيادة سيادية موحدة سياسية وعسكرية، وبرز الفشل بعد تفاقم هذه المشكلة عند بروز كيانات عسكرية وسياسية كل منها تدعي أنها الجامع المجمع الموحد ضمن الجسم الواحد بينما هي عبارة عن انشقاقات أخرى كانت ضمن تجمعات أكبر منها وما هي بالحقيقة إلا تعميق المقسوم الى أجزاء مقسومة أخرى وتحجيمها، وهنا تبرز المشكلة بشكل أكبر وهو عدم التوافق أو التنسيق بين أجسام المعارضة نفسها، من مجلس وطني إلى إئتلاف إلى هيئة مفاوضات ومن مجلس عسكري الى مجالس عسكرية هنا وهناك ومن حكومة معارضة الى حكومتين مؤقتة وإنقاذ ومن جنيف واحد الى جنيفات وعدة استانات متكررة، ومن مرحلة حكم إنتقالي الى سلاسل متفرقة بأهداف متخالفة وغير متناسقة مع ما يطالب به الشارع السوري. وبهذا يستمر الفشل الذريع في كل زاوية من زوايا العمل الثوري، وأدى الى فشل ذريع في التأسيس لمشروع سياسي وطني جامع، ويكون فعلياً الجسم الجامع الموحد الواحد ليعبر من خلاله العمل السياسي والعسكري ويقدم له الشعب السوري الشرعية ويمنحه الثقة بكل انتماءاتهم، والابتعاد عن الإقصاء أو التخوين والخروج من حالات الإحباط وضبط البوصلة السياسية باتجاه العمل الوطني الجامع من أجل تكوين الحاضنة الشعبية، وهذا يعني تقوية الأدوات السياسية والعسكرية في آليات النضال الثوري والبدء في تحرير المستعمر الخارجي والمغتصب الداخلي.
إن الشرعنة السيادية للقيادة السياسية والعسكرية هي المشكلة الأساس التي تواجه المعارضة السورية في سبيل تحقيق أهداف الثورة، وهذه المشكلة مستمرة منذ انطلاقة الثورة السورية ولم تتمكن من الثبات والنجاح في العمل ضمن جسم واحد كما كان في بداية الحراك في تأسيس المجلس الوطني. كذلك من المشكلات المهمة الأخرى التي أدت إلى إختفاء القرار الوطني السوري هو تشكيل منصات سياسية أو غيرها ترجع في فكرة تأسيسها من بعض الدول التي تبحث عن مصالحها، فاستطاعت هذه الدول تقزيم القرار الوطني وحرف اتجاه البوصلة السياسية السورية لهذه من المنصات المعارضة، مما أدى الى بعثرة أمل الشعب الثائر وبث روح الإحباط والملل في معظم شرائح الناشطين في المناطق المحررة أو المهجرة بالخارج. فلم يعد للشارع السوري والناشطين أي ثقة أو أمل في أحزاب وتجمعات سياسية ولا حتى تشكيلات عسكرية، ومعها تتلاشى الأمآل رويداً رويداً في إمكانية تكوين الجسم القيادي بهيكلية سياسية عسكرية موحدة وفق رؤية استراتيجية مشتركة،
المصالح الدولية وتقاطعاتها
إن الثورة السورية لم تعد فقط ثورة شعب في مواجهة نظام إستبدادي مجرم فحسب، بل باتت سورية ساحة حرب وصراع لدول عظمى وإقليمية ضمن صراع تناقض المصالح والمشاريع المتناقضة، عملت على إنشاء بيئة ومرتعاً للصراعات والمساومات الداخلية أثرت على وحدة الصف السوري. لقد اصبح من المعلوم لجميع السوريين وبعلم الكبير والصغير السياسي وغير السياسي أن الثورة السورية يتم تحطيمها من بعض هذه الدول العظمى التي هي نفسها في صراع مصالح فيما بينها في هذه المنطقة الجغرافية من العالم وتمحورت نقطة ارتكازها في سورية في إدارة هذا الصراع، ومن الغباء القول بأن هذه الدول هي فقط المسؤولة عن هذا الصراع رغم ضعف الجانب السوري أمام ميزان القوى لتلك الدول، فإننا نقول أن المسؤولية تتحملها أيضاً المعارضة السورية رغم كل شيء، نعم إن تلك الدول هي من خلق هذه الفوضى العسكرية والسياسية وشاركت فيها ولعبت وما زالت تلعب دوراً بالغ الخطورة والسلبية في تنفيذ خارطة خاصة أجندتها في المنطقة حسب مصالحها المتخالفة. فالصراع الغربي الروسي امتد من أوكرانيا الى سورية مما أدى الى احتلال كلا البلدين (أوكرانيا وسورية) من قبل الروس مع فرض واقع عسكري وسياسي مباشر على حال الثورة، والصراع السعودي الإيراني فرض واقع طائفي أضعف نجاح الثورة، والدور التركي يمتد ويتراجع حسب المواجهات المختلفة المتعددة الجوانب من الدول الدولية والإقليمية (ايران والعراق – مرورا” بروسيا وأوروبا – الى أمريكا) ومازالت تركيا تحاول إدارة الصراع في المنطقة بسياسة أقل الضرر وإحتواء أي توتر عسكري على الحدود السورية أو الشمال السوري المحرر من صد الإرهاب الداخلي أو القادم من سورية من قبل القوات الكردية المتمردة وبقايا تشكيلات تنظيم داعش إضافة المشاكل الداخلية من جماعة غولن. كل هذه الإشكالات والمشكلات تنعكس على الوضع السياسي السوري وتجسد حالة من الفوضى والجمود السياسي والعسكري وتوحيد الصف السوري والخروج الى هيكلية سياسية وعسكرية وإعلامية في كيان واحد يستمد الشرعية وقوة القرار الوطني.
حلول المشاكل السياسية والعسكرية السورية
كل ذلك هذا لا يعني اللجوء الى الهزيمة والإحباط أو فقد الثقة بإمكانات هذا الشعب وأبطاله، ولايعني أن الشلل والعجز بات كاملا” في جسم الثورة، فالصراع مضى عليه عشر سنوات ولن ينتهي بطرفة عين ويحتاج الى مسيرة طويلة من الكفاح والنضال وعلى كل الأصعدة فما مضى كانت فصولا” متغيرة ومتباينة من هذه الثورة ومازال هناك فصولا” أخرى يجب أن يكتبها الشعب السوري بنفسه.
فالسؤال المطروح الى متى؟ الجواب، نعتقد أن الواقع الذي يبدو أمامنا قاتما جدا” إذا إستمر تشتت المعارضة مجزأة بدون تحقيق العودة الى إيجاد حل المشكلة الأساسية في إيجاد وتأسيس مركز للثورة بقيادة واحدة وليس موحدة والخروج من الركود والسبات الى الحركة العملية الناجحة في تكوين مؤسسة مركزية للثورة، وهذا الحل يبدأ من الكل ليس من البعض، أي العمل على تفعيل الحل منا جميعا” ونبدأ بالتخطيط من جديد في رؤية موحدة في سبيل هدف واحد، وهذا العمل يجب أن يقوم على بناء مسار واحد لكل المكونات السياسية والعسكرية والمدنية والانطلاق من جسم شعبي سوري وطني بشرعية قيادية واحدة يعمل على تلبية الحق الاساسي من طموحات الشعب السوري وأهداف الثورة في الوصول الى الحرية والكرامة في إزاحة وإسقاط الطغمة الحاكمة الذي لا بديل آخر عنه، وغير ذلك تكون الحلول والمسارات أو الخطط غير استراتيجية ومداخل الى مسارات متشعبة بعيدة عن الانتصار بل الذهاب الى المجهول في تعويم الثورة السورية بين لاعبين لا يرغبون ولا حتى يساعدون على دعم التغيير السياسي في سورية بطريقة سياسية ممكنة.
لابد من العمل للحصول على ثقة الشعب السوري، تبدأ بوحدة الرؤى ووحدة الوسيلة من أجل إنتصار ثورتهم، حينها نوافذ الأمل تفتح الى طريق الانتصار، ولن يتم أي من ذلك إلا إذا ختمت قلوبنا وعقولنا برؤية أهداف واحدة وصنعنا بأنفسنا آليات داخلية وطنية سورية لا فيها دخيل ولا فيها عميل، عندها نستطيع آن نؤثر على الاتجاه الاستراتيجي للأحداث، ولا نستسلم لاشتراطات اللحظة الراهنة والقبول بما يملى علينا من خيارات لا ناقة لنا فيها ولا جمل.
إن الدول الإقليمية أو الدولية لهم خيارات تختلف عن الناقة التي نريدها والجمل الذي نرغب بامتطائه والذي يجب أن يكون بإرادتنا الشعبية فليست الاستانة ولا جنيف هي المشكلة إنما المشكلة بما يتم طبخه في عواصم تلك الدول المعنية، عندما نرفض تعدد المنصات السورية (أستانة وموسكو والقاهرة والدوحة والرياض) ونقوم بتوحيد عملي لهذه المنصات الى منصة سورية وطنية واحدة من خلال هيئة شعبية واسعة تقوم على انتخاب القيادة المركزية مرتبطة بهذه القاعدة الشعبية.
وحده العمل والتخطيط الاستراتيجي وعلى المدى القريب والبعيد هو بداية العمل على إيجاد القاعدة الشعبية الواسعة من جميع أطياف الشعب (قوميات وطوائف) لتكوين قيادة شرعية تقوم على نبذ المقاومة السلبية والتحول الى العمل الإيجابي وتحدد البوصلة السياسية والعسكرية وحتى المدنية الخدمية وعلى كل الأصعدة في تنفيذ المشاريع الوطنية (رغم كل الصعوبات والمشكلات) المبينة على أهداف ومطالب الشعب الوطنية في الحرية والعدالة والبناء من أجل بناء المشروع الوطني على ثوابت واضحة جلية من وحدة التراب وحقوق المواطن السوري بكل تاريخه وإرثه وحوامله الثورية الجديدة في الحداثة، وغير ذلك لن يتحقق شيئاً يؤدي مدخله عشر ويمكن عشرون سنة أخرى.
وندرك جميعا” أن غير ذلك سيؤدي بدون شك الى تحقيق أهداف إيران وروسيا وغيرها بتعويم النظام الأسدي وتمكين الأسد مرة أخرى، وهذا ما سوف يؤول الى المزيد من الشتات في دول المهجر وضياع الأجيال التي هي عماد الوطن في المستقبل ولن نحصر الخسائر من تقسيم جغرافي وطائفي وكنتونات عسكرية مؤدلجة خارجيا”.
ختاما”
إن ضرورة الوقوف في وجه الحلول الغير وطنية هي حق الشعب السوري وتضحياته، وإن الحصول والنضال للوصول الى حقه في العيش بحرية وكرامة سيكون واجب من واجبات الهيئة الشعبية الشرعية لممثلي الشعب وقيادته، ولايسمح لاي ملف آخر طائفي أو قومي أن يجد طريقه في المفاوضات السياسية، وأن لا يسمح لتجار الدماء (من مليشيات طائفية أو غيرهم) بالمساومة والمتاجرة بدماء الشعب السوري في منصات البازار (الاستانة وموسكو وغيرها) وتعميق الألم في شرخ وحدة الصف السوري من خلال التفاوض في سلال وتسويات أو مصالح ملاك تلك المنصات، فشروط الحل السياسي السوري الوطني يجب ألا يمر من تلك الأنفاق التي تحرفنا عن الحل الممكن الوطني بعدالة وإنسانية.
وبالتالي فانه يجب أن نفهم ونعي بأن أية مبادرات ومشاريع من خلال تلك المنصات ليست الا تعميق الجرح الحالي وزيادة جرعات السم القاتلة للثورة، لهذا يجب أن نبدأ فوراً بالعمل على هذا الحل وعدم السماح في تحريف الصراع من قبل أي دولة أو غيرها واختزاله بفئة دون فئة في حصر المشكلة السورية في سلة إرهاب أو دستور أو انتخاب، وأن نعود الى الشعب وتفعيل البعد الإنساني وتوحيد ما يمكن من جهود إغاثية ومدنية خدمية.
ولنعرف الصديق من العدو ولنتعاون مع الجار المتعاون ونستثمر هذا التعاون في صالح قضيتنا، فلا ننسى أن تركيا قدمت الكثير ومازالت تقدم وهي الجار الوحيد الذي سمح للكيانات والمنظمات والتجمعات السياسية والمدنية بممارسة نشاطها على أراضيها بداية من المجلس الوطني مروراً بالحكومة المؤقتة وانتهاءً بالائتلاف والكثير من الأحزاب والمنظمات التي ساهمت على مدى عشر سنوات بدعم النازحين في الداخل السوري ورعاية اللاجئين.، فالفرصة متاحة للعمل بجد الى الحل كما أسلفنا والدعوة الى تكوين هيئة شعبية واسعة متنوعة ونعمل بسياسة التقريب والتجميع ضمن دوائر متقاطعة ودوائر تحتوي بعضها البعض لجميع التجمعات السياسية النشيطة وتأطير العمل العسكري في رؤية سياسية واحدة.
دوائر سياسية مع دوائر ضمنية من دائرة حقوقية وإعلامية وعسكرية وقضائية ومدنية وخدمية مهما كانت المفترقات السياسية الفكرية اللحظية فلا سقف يعلو على وحدة الوطن وترابه (لا سياسية ولا بندقية ولا دولارا”) فهذا عامل حاسم في صناعة المستقبل والتاريخ وتلك لحظة الوعي والعقل والإرادة الوطنية التي يجب أن نكون فيها جمعيا” أعواد ثقاب وجزءً في صنع سفينة النجاة والانتصار بإذن الله وإلا سنغرق جميعا”.
وحسبنا الله غالبٌ لأمره.