“كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي” هذه المقولة تنسب لوزير الدعاية الألماني الشهير “جوزيف غوبلز” لكنها يمكن أن تنسب لكل حاكم مستبد، أو لنقل: إنها متبناة بشكل قوي من قبل هؤلاء. لذلك، يمكن بسهولة ملاحظة أن الشعوب التي تحكمها أنظمة استبدادية، تكاد تخلو من المثقفين، ولعل هذه الظاهرة (ندرة المثقفين) تجلت بوضوح خلال سنوات الثورة السورية، حيث لم تظهر تلك النخبة المثقفة القادرة على طرح أفكار جديدة تعبر عن روح الثورة، والقادرة على اجتثاث ثقافة البعث وقيمه، وترسيخ ثقافة وقيم مختلفة. ويمكن القول: إن معظم الذين تموضعوا في الصفوف الأولى، ومن تصدروا الشاشات والمنصات الفكرية هم من فئة المتعلمين، وهؤلاء درجت العادة أن يطلق عليهم لقب المثقفين، لكن الحقيقة غير ذلك تماما، فالمتعلم لا يمكن أن يكون مثقفا إلا إذا سعى إلى ذلك، والفرق بين الاثنين كبير. فالمثقف غالبا هو متعلم تابع البحث والتمحيص في المجال الفكري والثقافي، متعمقا بكل ما له علاقة في شؤون المجتمع، وهو لا يأخذ الأمور ببساطة بل يتفحصها بنظرة موضوعية وينتقد الفاسد بشجاعة قد توصله إلى النبذ الاجتماعي. أما المتعلم فهو في الغالب شخص تلقى تعليما باختصاص معين واكتفى بذلك. وأغلب هؤلاء يتوقفون عن القراءة والمطالعة منذ الساعة التي حصلوا فيها على شهادتهم العلمية، أو أنهم تابعوا الاطلاع على ما يخدم العلم الذي تخصصوا به. والمتعلم في بعض الأحيان يكون له دور سلبي في حياة مجتمعه، فالمجتمعات المتخلفة تجد السند الأكبر لها في المتعلمين الذين لا يملكون روح النقد والتمرد على الموروثات والعادات الاجتماعية المتخلفة والبالية، فيدافعون عنها من مصدر قوة؛ فهم مثقفون في عرف المجتمع.
ولكي تكون الصورة أكثر وضوحا، يمكن القول: إن المتعلم يسير على خطى السياسي دون أن يكون سياسيا. فعلى صعيد السياسة يقال: إن كل الوسائل المستخدمة من قبل الأجهزة الحزبية ترتكز على استراتيجية واحدة هي: الإيمان بـ لاعقلانية الجماهير ضمنيا، ثم التظاهر في نفس الوقت بأنها عقلانية ومنطقية! ولهذا السبب يقال بأن كل زعيم سياسي يظهر على شاشة التلفزيون، يضع مسبقا قناعا على وجهه؛ لكي يقول ما يدغدغ عواطف الجماهير، وليس ما يعتقده بالفعل. والخلاف بين السياسي والمتعلم؛ أن السياسي يعرف ماذا يفعل، بينما المتعلم لا يعرف! أما المثقف، فيمكن القول إنه الشخص الذي يسير على خطى المفكرين الكبار، الذين أحدثت أفكارهم نقلات في حياة البشرية، دون أن يرى معظم هؤلاء ثمار أعمالهم، بل حوكموا ولوحقوا وأعدموا أحيانا بتهمة الهرطقة أو غيرها.
إن المواصفات التي يعطيها هذا المقال للمثقف، تميل إلى أن تكون أكثر تجديدا للتذكير بنوع خاص من المثقفين، وهو ما يطلق عليه الدكتور طارق سويدان في إحدى مدوناته لقب ” المختلف” ثم يقول عنه: “المختلف ضروري للحياة البشرية، إذ لولا المختلف ما جاءت الإبداعات ولما تطورت الحياة! أدرك الغرب أهمية المختلف والمختلفة فعملوا حول هؤلاء أفلاما … لينشروا الوعي العام بمن هو المختلف ليحترمه الناس ويقدرونه” أي، أدرك الغرب أن هؤلاء ثروة وطنية لا مصدر قلق وإزعاج كما كان ينظر إليهم سابقا في تلك البلدان، أو كما ينظر إليهم حاليا لدى الشعوب التي ما زالت تعاني من الركود الفكري والمعرفي.
ثم يقول الدكتور طارق سويدان: “لكن هذا المختلف مزعج جدا لأنه يهز قناعات الناس، ويغير النمط السائد بينهم، مما يجعلهم ينتقلون من منطقة الراحة إلى منطقة التساؤل. والذين لهم مصالح من بقاء الأمور كما هي سيحاربونه لأن التغيير يهدد مصالحهم… والذين لا يفهمون ما يجري حولهم سوف يتجنبونه لأنهم لا يفكرون لأنفسهم، وسيتبعون تحذيرات من يفكرون بالنيابة عنهم! المختلف هو الذي يغير الدنيا، ويشعل فتيل النهضة للدولة… ويغير مسار التاريخ كله مباشرة بصنع يده، أو بشكل غير مباشر على يد من تأثروا به.”
وفي نفس السياق يطرح الدكتور جاسم سلطان حلا لمشكلة التخلف المزمن الذي تعاني منه المجتمعات العربية، حيث يطرح فكرة ملخصها؛ أن تقوم النخب السياسية والاجتماعية القادرة، بتبني أفكار كبار المفكرين وتعميمها. أي، إعطاؤها قوة دفع وسرعة في التعميم والانتشار.
في بلد مثل سوريا، تعتبر ظاهرة تشتت آراء الشعب، وصعوبة الوصول إلى اتفاق حول معظم القضايا الوطنية ظاهرة طبيعية، ويعود ذلك لعدة أسباب، يرتبط معظمها بالموقع الجغرافي لسوريا. وعن هذا يقول “رايموند هينبوش” في دراسته: “تشكيل الدولة الشمولية في سورية البعث”: “إن كونها جسرا بريا بين قارات ثلاث ووقوعها وسط الصحراء والسهوب قد عرضها لتحركات أعراق متعددة ولغزوات القبائل البدوية، والتي ولدت (التنقلات والغزوات) تعددية ثقافية اجتماعية… هذه التعددية والاختراق القبلي المتواصل للمجتمع (بما في ذلك عادات الزواج من الجماعة نفسها. أي، تقوقع الجماعات الصغيرة المكونة للمجتمع السوري على ذاتها)، والإنتاج المحلي القائم على الملكيات الصغيرة، وكذلك بدائية وسائل النقل والتواصل، هذه العوامل مجتمعة ولدت وحافظت على بنية مجتمعية مجزأة وذات انقسامات عميقة، ولم تولد نظاما شاملا موحدا ينتج قوى متكافئة تشاركية. كما أن سورية، التي كانت جائزة تنازعتها الإمبرطوريات المتنافسة، وربما بسبب موقعها المكشوف، لم تشهد عبر التاريخ قيام دولة متأصلة قادرة على توحيد مجتمع كهذا ينزع إلى الابتعاد عن المركز”
إذن، فسوريا دولة حديثة العهد، وتمتاز بتنوع عرقي وديني ومذهبي كبير. وعليه، إذا كانت المجتمعات والشعوب الأخرى بحاجة إلى أفكار وابتكارات “المختلفين”، فسوريا بحاجة مضاعفة لجهود هؤلاء. لذلك، فالبحث عن هؤلاء وإفساح المجال لهم واجب وطني، بل ويصل إلى مستوى العبادة. وفي المقابل، لا شك أن من يقف في وجه هؤلاء ويحجبهم عن الجماهير ويحاربهم يستحق الرجم! والرجم بالتحديد.