أزمة الإسلام… أم أزمة ماكرون مع الإسلام؟
مقال رأي/ د. سامر عبد الهادي علي
المركز السوري سيرز 01.11.2020
لم يكن تصريح ماكرون في الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر حول أنً “الإسلام يعيش اليوم أزمة في كل مكان بالعالم”، وإن على فرنسا التصدي لما وصفها “بالانعزالية الإسلامية الساعية إلى إقامة نظام موازٍ وإنكار الجمهورية الفرنسية” نابعاً من فراغ، أو جاء على سبيل المصادفة، بل كان تعبيراً عن مدى التراجع الذي تشهده فرنساً تحديداً، ناهيك عن كثير من دول أوروبا العجوز، في مختلف الأصعدة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحتى الدينية، والخوف من أن يتصدر المسلمون المشهد الأوروبي من خلال ما نشهده من توسع أفقي وعامودي للمسلمين داخل أوروبا. إلا أنّ الخوف الأكبر لفرنسا هو الدعم الذي بات المسلمون يستندون إليه من خلال نفوذ دولة إسلامية صاعدة ومنافسة لأوروبا سياسياً واقتصاديا وعسكرياً، وأقصد هنا تركيا.
نعم…. إنّ الخوف الذي أبداه ماكرون من تصاعد الدور والنفوذ التركي على العديد من الجبهات، ومواجهته للدور الفرنسي في أكثر من منطقة هو ما دفع ماكرون الخاسر في صراعه مع تركيا حتى الآن إلى أن يعلن ما بداخله علّه يستثير زعماء أوروبا وحتى أمريكا للوقوف معه في هذه المواجهة التي سيخسرها حتماً في حال بقاءه وحيداً على الساحة، وهو ما نشاهده اليوم.
وحتى لا نعود إلى الوراء كثيراً يمكن أن نشير إلى بعض المواقف خلال المرحلة القليلة الماضية، التي رفعت من حدّة العداء الفرنسي لتركيا ومحاولة ماكرون تصويره على أنه خلاف ديني للتغطية على مآربه التوسعية التي لا يزال يعيشها بعقلية المحتل الفرنسي ما قبل الحرب العالمية الثانية رغم تغير الظروف والمعطيات ليس ما بعد الحرب العالمية الثانية فحسب، بل حتى ما بعد المتغيرات العالمية خلال الألفية الجديدة من صعود دول على الساحة العالمية سياسياً واقتصادياً في ظل العولمة التي نعيشها، والمتغيرات التي أخذت تشهدها الكثير من دول العالم داخلياً، خاصة تلك التي كانت محتلة من قبل فرنسا ذاتها، ومنها الثورات العربية على الأنظمة الاستبدادية العميلة لها ولغيرها من دول الغرب عامة. كما أنّ انتقال سقوط الأنظمة العميلة من الدول العربية إلى بعض الدول الإفريقية التي كانت محتلة من فرنسا كذلك، زاد من حدّة المأزق الذي بدأت تعانيه فرنسا، وليس انقلاب مالي العسكري آخرها، خاصة مع ظهور دور تركي في هذا الانقلاب وتسلم ضباط الجيش المعادين لفرنسا زمام السلطة.
بهذه العقلية الاستعمارية البائدة أراد ماكرون مواجهة تركيا الصاعدة في المنطقة والعالم، فوقف في وجه الحقوق التركية للتنقيب عن الثروات الباطنية في شرقي المتوسط، ودعم اليونان بكل إمكانياته في مواجهة تركيا، كما عمل على حشد الدول الأوروبية وبعض الأنظمة العربية العميلة للوقوف ضد تركيا، إلا أنّ الكثير من الدول الأوروبية تلك تدرك فعلاً حجمها الحقيقي الحالي، وابتعدت عن سياسة العداء غير المبرر وغير محسوب العواقب في ظل أزمة تعيشها أوروبا فعلاً نتيجة الخسائر الكبيرة التي أصابت القطاع الاقتصادي والصحي في ظل الانتشار غير المسبوق لوباء كورونا، حيث أظهر هذا الوباء الإمكانيات الحقيقية لدول أوروبا، وفي مقدمتها فرنسا، وأنها عاجزة عن التصدي لهذا الوباء صحياً من خلال توفير الأجهزة والمعدات الطبية والبنية التحتية الصحية القادرة على المواجهة، أو من خلال سياسة الدعم الاجتماعي للقطاعات المختلفة التي أغلقت لشهور، ولا تزال، وهو ما أثر على شريحة واسعة من الناس في مقدمتها العمال.
بالمقابل أظهرت تركيا تقدماً هائلاً في تلك القطاعات، ظهر ذلك جليّاً من خلال افتتاح الكثير من المشافي والمدن الطبية حتى خلال الوباء، والتصنيع الكبير لمعدات التنفس الصناعي والأجهزة الطبية الأخرى، وتقديمها الأطنان من المساعدات الطبية لمعظم دول العالم بما فيها أوروبا وأمريكا، وهو ما شهدناه من خلال الطائرات التركية التي حطت في مختلف مطارات العالم تحمل تلك المساعدات.
أما عسكرياً، فإن تركيا حققت نجاحات كبيرة في قطاع التصنيع العسكري من جهة وفي تمددها العسكري في مناطق متعددة من الإقليم، نذكر منها دون الخوض فيها “ليبيا وسورية وقبرص وأذربيجان”، وحتى في الأزمة اللبنانية ما بعد انفجار بيروت وتداعياته حتى الآن.
إنّ عنجهية ماكرون الفارغة، وعدم إدراكه ومواكبته للمتغيرات الإقليمية والدولية، وفقدانه السيطرة على نفسه خلال الفترة الماضية، لذلك رأينا خلالها الرئيس التركي ينصحه بمراجعة طبيب أمراض عقلية، كما وصفه عدد من المحللين بأنه سياسي هاوي وليس رئيس دولة كفرنسا، دفعته إلى الغوص أكثر ومحاولته خلط الأوراق من جديد، واستعطاف الغرب المسيحي لمواجهة التمدد الإسلامي الذي وصفه “بالخطر”، فأيّد علناً نشر الرسوم المسيئة للنبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، واعتبر ذلك من قيم فرنسا في مجال حرية الرأي والتعبير، وهو ما أدّى إلى مفعول عكسي مباشر، فاندلعت المظاهرات في عدد من دول العالم الإسلامي ضد ماكرون وفرنسا، وظهرت الحملات الكبرى الداعية لمقاطعة المنتجات الفرنسية، وأخذت تتوسع بشكل كبير خلال فترة قصيرة، ما يعني خسائر بملايين الدولارات لفرنسا وشركاتها العاملة في مختلف دول العالم، مقابل دعوات لاستبدال البضائع الفرنسية بأخرى تركية، وهو انتصار تركي آخر نتيجة السياسة الحكيمة لتركيا، وظهور ماكرون فعلاً بمظهر الهاوي الذي يخسر كل يوم.
هذه السياسية التي اتخذها ماكرون، والأزمة الأخلاقية والدينية التي وضع فرنسا فيها، انعكست على الداخل الفرنسي من خلال حالة التصدع التي بات يعيشها المجتمع الفرنسي نفسه، وقد رأينا قضية قتل أحد الفرنسيين من أصول شيشانية للمدرس الذي عرض الرسوم المسيئة، واستمرار تزايد الاحتقان وعمليات الطعن هنا وهناك في المدن الفرنسية بشكل شبه يومي خلال الفترة القليلة الماضية، دفعت المؤسسات الفرنسية لاتخاذ الصمت حيال سياسة ماكرون الرعناء، بمعنى عدم الدخول في هذه الأزمة التي ستعود عليها بمنعكسات سلبية وحتى كارثية مع استمرار مقاطعة المنتجات الفرنسية في معظم الدول العربية والإسلامية.
وبعد أن رأى ماكرون اليوم مدى الأزمة التي يعيشها والتي وضع فرنسا فيها بات لزاماً عليه التحرك لوقف التدهور الحاصل، فخرج علينا البارحة من نافذة قناة الجزيرة، التي تعد من أكثر القنوات العربية مشاهدة وتأثيراً في الرأي العام العربي والعالمي، ليبرر موقفه هذا، في مسعى منه لإخراج نفسه من المأزق، واتخاذ خطوة يعتقد أنها ضرورية للتراجع عن مواقفه المعادية للإسلام.
بالرغم من ذلك لم يكن ماكرون موفقاً خلال مقابلته هذه، وأصبح في مكان لا يمكن معه التراجع بقوة، لأنّ تراجعه قد يعني انتهاء مشواره السياسي أمام صعود منافسته القوية زعيمة حزب الجبهة الوطنية اليميني “مارين لوبان” للرئاسة، كما أنّ استمراره في سياسته هذه سيضع فرنسا كلها في أزمة متفاقمة سياسياً واقتصادياً على المستوى العربي والإسلامي والدولي.
من هنا ندرك أنّ أزمة الإسلام التي تحدث عنها ماكرون سابقاً، وحاول تسويقها ضمن ما يصفونه “الإسلام فوبيا” وضعته هو نفسه في أزمة أمام شعبه كله من مسلمين وغيرهم، وأمام العالم العربي والإسلامي ككل، وأصبح يتوسل الإعلام العربي لتجميل موقفه والنأي عن تصريحاته بحجة تفسيرها بشكل خاطئ وفي غير محلها، لكن ذلك لن يُنهي أزمته هذه، وسيدفع ثمنها قريباً على مستوى الداخل الفرنسي وعلى مستوى مكانة فرنسا في كثير من دول العالم.